هل يوجد بدعة حسنة أم كل البدع سيئة وضلالة؟

السؤال:
هل يوجد بدعة حسنة أم كل البدع سيئة وضلالة؟
الجواب:
البدعة تنقسم عموما إلى بدعة قبيحة وحسنة، وعلى التفصيل تنقسم إلى الأقسام التكليفية الخمسة، فمنها الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، وأدلة وجود البدعة الحسنة كثيرة منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
الدليل الأول: من القرآن (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) [الحديد: 27].
فبعد أن أرسل عليهم الإنجيل ابتدعوا رهبانية لم يكلفهم الله بها، بل هم من اخترعها لا من الإنجيل انتزعها، ومع ذلك لم ينكر عليهم تعالى ابتداعها ولكن أنكر عليهم عدم التزامهم بها، فبعد أن ابتدعوها كتبها الله عليهم حيث بدؤوا بخير وهو الانقطاع لعبادة الله تعالى فألزمهم الله تعالى بإكماله كما ألزم بإكمال الحج والعمرة بالشروع فيهما وإن لم يكونا واجبين (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه) [البقرة: 196].
فلم يذمهم الله تعالى على ابتداع الرهبانية، بل أقرهم عليها وذمهم على عدم رعايتها حق رعايتها بالالتزام بها على أكمل وجه (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أما من رعى هذه الرهبانية المبتدعة حق رعايتها فهو مأجور لا موزور بحسب مفهوم المخالفة وبنص قوله تعالى (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) [الحديد: 27].
الدليل الثاني: السنة النبوية التي دعت للاجتهاد أو أقرته، والاجتهاد الذي لا نص فيه ولا قياس نوع من الابتداع على غير مثال سابق، فأكثر الفقه الإسلامي وخاصة نوازله ومستجداته ليس فيه نصوص من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اختلف الفقهاء في هذه المسائل من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا خلافا احترم كل طرف فيهم الآخر دون تبديع أو تفسيق، بل قبل ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد الصحابة برأيهم ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وأدلة وفيرة منها ما روي عن معاذ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن، فقال: ” كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ ” قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: ” فإن لم يكن في كتاب الله؟ ” قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ” فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ” قال: أجتهد رأيي، لا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: ” الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وجه الدلالة من هذا الحديث وغيره من الأدلة التي أقر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على الاجتهاد أو دعت إليه بعمومها أو إطلاقها إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في أمر ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله، وما لم يكن فيهما فهو مبتدع بعموم الحديث السابق ومع ذلك يقر المجتهد على اجتهاده فيه، وقد يؤديه اجتهاده إلى الحكم بوجوبه أو ندبه مع أنه مستحدث مبتدع مستجد.
هذا الحديث رواه جمع من أهل العلم كالترمذي وأبي داود وأحمد بن حنبل والدرامي والبيهقي، وإن كان إسناده ضعيفا لإبهام أصحاب معاذ، لكن جمعا من المحققين صححوه كأبي بكر الرازي وأبي بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية.
قال الخطيب البغدادي:” إن قول الحارث بن عمرو، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده، والظاهر من حال أصحابه الدين والثقة والزهد والصلاح، وقد قيل: إن عبادة بن نُسَيّ رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)، وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، وقوله: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع)، وقوله: (الدية على العاقلة)، وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ، لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له”.
الدليل الثالث: تخصيص عموم أحاديث البدعة بالسنة القولية، فاستدلال النافين للبدعة الحسنة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، هو استدلال بالعموم والعام ظني الدلالة عند أكثر أهل العلم والمعتبرين من الأصوليين، فما من عام إلا وقد خص، وهو عام مخصوص بأحاديث منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا) فالبدعة مخصوصة في أمور الدين لا الدنيا، أي العبادات لا العادات لنصه صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله “أمرنا” أي شرعنا وأمور ديننا.
- كما خص بقوله صلى الله عليه وسلم (ما ليس منه) أي مخالفا له؛ لأن ما كان داخلا تحت عموم أو إطلاق أو قياس أو مقصد شرعي معتبر فلا يكون بدعة أصلاً، وأكثر الخلاف بين الفقهاء في دخول المبتدعات تحت العمومات أو الإطلاقات أو الأقيسة أو مقاصد الشريعة باعتبار أن الأمر المبتدع محل الخلاف داخل تحت مصلحة اعتبر الشارع جنسها أو نوعها لا ذاتها بدليل خاص…
- قوله صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يسن عبد سنة صالحة يعمل بها بعده)، فالحديث صريح أن من سن أي استحدث جديدا على غير مثال سابق وكان حسناً أو صالحاً كان مأجوراً لا موزوراً، فكل بدعة ضلالة إذا خالفت أصلاً شرعيا أو مصلحة مقصودة، أما من اخترع خيراً واستحدث مصلحة فله أجر هذا الإبداع إلى يوم الدين، فهو “إبداع لا ابتداع”.
- قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم خص البدعة المذمومة بكونها (ليس عليه أمرنا) وبحسب مفهوم المخالفة أن من ابتدع على وفق أمرنا لم يكن ردا، وهذا معنى البدعة الحسنة أن تكون موافقة لمقاصد الشريعة الغراء وعمومات وإطلاقات كل دعوة إلى خير فيها، مما اعتبر الشارع جنس مصلحته لا نوع أو عين مصلحتها فقط كما يدعي الظاهرية الجدد ممن وسعوا مفهوم البدعة لتشمل ما هب دب، طاب وخاب، حسن وقبح، نفع وضر، لذ وشذ، وسواء صدرت من فذٍّ أو قذٍّ …
الدليل الرابع: السنة التقريرية، كإقراره صلى الله عليه وسلم لبدع كثيرة حصلت أمامه منها:
- أنه أقر بلالا على ابتداعه رضي الله تعالى عنه ركعتين بعد الوضوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال «عند صلاة الفجر: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملا أرجى عندي: أني لم أتطهر طهورا، في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي ” قال أبو عبد الله: «دف نعليك يعني تحريك».
- إقراره صلى الله عليه وسلم الذي ابتدع ذكرا في الصلاة على غير مثال سابق، فعن رفاعة بن رافع الزرقي، قال: (كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده “، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف، قال: «من المتكلم» قال: أنا، قال: «رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول».
ففي الحديثين إقراران: الأول: إقراره صلى الله عليه وسلم على خصوص الركعتين والدعاء. الثاني: إقراره صلى الله عليه وسلم على جواز استحداث أمر جديد في الدين ليس على منوال سابق دون الرجوع إلى النبي r إن كان ما ابتدعه حسنا، فلو كان بلال بابتداعه الركعتين أو الرجل بابتداعه الذكر في الصلاة دون الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مخطئين؛ لنهاهما النبي صلى الله عليه وسلم عن فعلها مرة أخرى قبل الرجوع إليه، فسكوته صلى الله عليه وسلم عن ابتداعهما إقرار على أصل مشروعية الابتداع بشرط أن يكون في خير، ومثله وعلى شاكلته كثير، فكل بدعة تخالف أدلة الشرع وأصوله وقواعده هي السيئة، وما وافقت فهي حسنة شرعا.
الدليل الخامس: سنة الخلفاء الراشدين التصريح بالبدعة الحسنة، وتطبيقها عمليا باستحداث بدع شرعية حسنة في مسائل كثيرة وهم الذي قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ)، منها: ما ابتدعه فاروق الأمة ومقاصِدِيُّها عمر بن الخطاب بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري؛ أنه قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب، في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون. يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهْط. فقال عمر: والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أَمْثَلَ. فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب. قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم. فقال: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هذه)، (نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون)، وجه الدلالة أن عمر رضي الله عنه ابتدع بدعا شرعية في الصلاة هي: 1- جمعهم على إمام ولم يجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان صلى الله عليه وسلم يصلي وحده. 2- صلى بهم ثلاثين يوما ولم يصل بهم النبي r إلا ثلاثا صلوا بصلاته دون أن يجمعهم. 3- صلى بهم عشرين ركعة وقد كان النبي كما في حديث عائشة في صحيح مسلم يصليها ثماني ركعات فقط. ثم صرح رضي الله عنه بنصٍ صحيحٍ صريحٍ أنها بدعة حسنة، بل من النِّعَم.
ومن البدع الشرعية الحسنة التي أحدثها علي بن أبي طالب رضي الله ما روى عنه غير واحد بعضها إسناده جيد عن سلامة الكندي، قال: (كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على رسول الله r وهو على المنبر، فيقول: قولوا: اللهم يا دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ، وَبَادِئَ الْمَسْمُوكَاتِ، وَجَبَّارَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا، اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِه)، فهذا دعاء مبتدع على غير مثال سابق في الصلاة على النبي يعلمه الناس رضي الله عنه.
قلت: ورواه في تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن سعيد بن منصور لأبي نعيم وإسناده جيد فسليمان بن أحمد الطبراني حافظ ثبت، وسعيد بن منصور خراساني ثقة، ونوح بن قيس الحداني صدوق، وسلامة الكندي ذكره أبو حاتم بن حبان البستي في الثقات، ومسعدة بن سعد بن مسعدة المكي معروف العين مستور الحال.
ومن المحدثات الحسنة في الدين التي اخترعها ترجمان القرآن وأحدثها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أول من أبدع في البصرة بدعة حسنة هي “التعريف” ومعناها أن يقف غير الحاج في مكان كالمسجد أو غيره في بلده يتعبد يوم عرفة كما يقف الحجيج يتعبدون على عرفة تشبها بهم، ففي مصنف عبد الرزاق قال: (أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قال عدي بن أرطاة للحسن: ألا تخرج بالناس فَتُعَرِّفَ بهم، وذلك بالبصرة؟ قال: فقال الحسن: «إنما الْمُعَرَّفُ بِعَرَفَة» قال: وكان الحسن يقول: أول من عَرَّفَ بأرضنا ابن عباس)، عن ابن التيمي، عن أبيه قال: (سمعت الحسن يقول: (أول من عَرَّفَ بأرضنا ابن عباس كان يتعد عشية عرفة، فيقرأ القرآن البقرة آية آية، وكان مَثَجًّا عالما)، ولله درهم لو فعلها شخص غير ابن عباس محاكيا الوقوف بعرفة في غير عرفة لكانوا أقاموا الدنيا وأقعدوها أنه من المبتدعين، لكن حبر الأمة من المحققين الذين قالوا وفهموا وطبقوا، بل وأصلوا للبدعة الحسنة.
الدليل السادس: إجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جواز ابتداع أمور شرعية بنوها على المصلحة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع توفر الداعي على فعلها منه صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جدا كفعل عثمان رضي الله عنه في استحداث الأذان الثاني، والأذان عبادة، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع حاجة الناس إليه، وأجمعت الصحابة عليه ولم ينكروا على عثمان فعله فكان إجماعا على جواز هذا النوع من الابتداع، كما أجمعوا على جمع القرآن الكريم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله وكانت الحاجة في زمنه صلى الله عليه وسلم داعية إلى جمعه لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقم به، وليس لهذا الجمع والأذان دليل من نص ولم يفعله النبي r فكان أصلاً عظيما للبدعة الحسنة، ومثله كثير كقتل عمر الجماعة بالواحد، وإيقاعه طلاق الثلاث ثلاثا، واتخاذه السجن، وتضمين علي للصُّنَّاع، وجلدهم شارب الخمر ثمانين…
وتأسيساً على ما سبق فالبدعة عند المحققين من الأصوليين تنقسم إلى قسمين رئيسين: بدعة حسنة وسيئة، وعند التفصيل تنقسم إلى الأحكام التكليفية الخمسة فمنها الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة، وأول من قال بالبدعة الحسنة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في قوله السابق (من سن في الإسلام سنة حسنة).
وأكثر العلماء على تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة، وإن لم يعبر كثير منهم بلفظ البدعة وإنما عبر عن الأمور المستحدثة بلفظ السنة أو المندوب أو الفضيلة أو المستحسن أو النافلة أو الأدب أو الخير أو غيرها من الألفاظ التي تدل على استحسان هذا الفعل المستحدث شرعا.
فمن السلف الإمام الشافعي في قوله: ” المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثراً أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى “.
وها هو سلطان العلماء العز بن عبد السلام بقوله: ” البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله r. وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة”.
ويقول أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث: ” فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها، والاستحباب لها، ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي، وذلك نحو بناء المنابر والربط والمدارس وخانات السبيل وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى”.
وتابعهم عدد لا يحصى من العلماء والمحققين على وجود البدعة الحسنة منهم على وجه التمثيل لا الحصر: النووي، وابن الأثير، وابن حجر الهيتمي في التحفة، والرملي في نهاية المحتاج، والسيوطي في شرحه على الموطأ وفي حسن المقصد في عمل المولد ونقله عن عدد من العلماء كابن حجر العسقلاني وابن الجزري، والإمام أبو شامة في كتابه الباعث إلى إنكار البدع والحوادث، والتاج السبكي فيما نقله عنه السيوطي في حسن المقصد في عمل المولد، والبجيرمي في حاشيته، والجمل في حاشيته على شرح المنهج، والقليوبي في حاشيته على كنز الراغبين، وابن الحاج في المدخل، والعيني في البِنايَة وشرحه على البخاري، ومنلا خسرو في درر الحكام، وابن نجيم الحنفي في البحر الرائق، والطحطاوي في حاشيته، وابن عابدين في حاشيته، وابن الجوزي، والكرماني والقسطلاني في شرحهم على البخاري، والزرقاني في شرحه على الموطأ، والصنعاني في شرح بلوغ المرام، والقرافي في الذخيرة… وغيرهم كثير، بل عليه الجماهير…
فأرى أن البدعة الحسنة هي: كل مصلحة محدثة لم يدل عليها أصل في الشرع إثباتا أو نفيا، والبدعة السيئة: كل محدث ديني مخالف لأصل شرعي.
وأنبه هنا على أمور مهمة في البدعة:
- كثير من المحدثات تدخل تحت عمومات وإطلاقات النصوص الشرعية، فلا تكون بدعة إن دخلت هذه المحدثة تحت عموم أو إطلاق، فيكون الابتداع في صورتها لا في حقيقتها؛ لأن حقيقتها ثابتة بدخولها تحت عموم أو إطلاق النص، فالسلام على المصلي بعد الصلاة مع الدعاء له أن يتقبل الله صلاته ليس بدعة لدخوله تحت عمومات أحاديث السلام والدعاء للمؤمنين، ويبقى مسألة تخصيص وقت لهذه العبادة، وتخصيص وقت للعبادة ثابت بإقرار النبي r لبلال الذي خص ركعتين بوقت بعد كل وضوء.
- لا يدل مجرد ترك النبي r على النهي عن المتروك وعدم مشروعيته، فمجرد الترك ليس له دلالة للقاعدة المتقررة (لا ينسب إلى ساكت قول)، أما السكوت الذي له دلالة في الشرع فهو السكوت المقصود، كأن يحدث أمر أمام النبي r أو تتوجه الدواعي على فعل أمر فيتركه النبي r فهنا يكون الترك مقصودا فيكون المتروك مكروها أو محرما بحسبه للقاعدة المتقررة (السكوت في معرض الحاجة بيان).
- البدع مختصة بالأمور الشرعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) “أمرنا” أي ديننا وشرعنا، فمن أحدث أمراً مبتدعا في أمور الدنيا لم يكن فعله بدعة شرعية أصلاً، فلا يدخل في عموم حديث البدعة.
- المستحدث الجديد الذي يوافق أصلاً شرعيا وتحققت فيه مصلحة معتبرة ولو جنسا أو مرسلة قبلناه ولا نسميه بدعة، فلفظ “البدعة” لفظ غير مستحسن شرعاً، كتسمية العنب كرمة، وتسمية العبد أو الأمة عبداً، بل الأفضل أن نستعمل المصطلحات الأصولية فنقول – مثلا – فعل مندوب لا بدعة حسنة، وهو منهج المحققين من الأصوليين، بل أكثرهم، فيصبح الخلاف لفظيا بين كثير من مانعي البدعة الحسنة ومثبتيها، لكن لا بأس من استعمال لفظ “البدعة الحسنة”؛ لبيان صحة هذا الاستعمال، فكراهة الاستعمال تنتفي في مقام التعليم لبيان الجواز كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الشرب واقفا لنفي الحرمة.
وما ذكرناه شيء من التأصيل لا التفصيل في موضوع البدعة، ولو أردنا الاستفاضة لكتبنا كتابا نشرح فيه ما أجمل في هذه العجالة، وما لم يذكر من الدقائق إنما تركناه رغبة في عدم الخروج عن مقصد فن التأليف في الفتاوى المبني على الاختصار لا البسط، والاشارة لا طول العبارة.
مصدر الفتوى من كتاب: فتاوى معاصرة (2)، ايمن عبد الحميد البدارين، دار النور المبين للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2017م، صفحة (37-47 )
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.