رؤية وسطية في حكم تمثيل الأنبياء وحضور مسلسلاتهم وأفلامهم
السؤال:
ما حكم حضور مسلسل يوسف عليه السلام الذي يمثل فيه شخصية يوسف عليه السلام يظهر جميع جسده مع وجهه، وما حكم تمثيل الأنبياء عموما؟
الجواب:
حرم أكثر العلماء المعاصرين تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو ما أفتى به مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العشرين المنعقدة بمكة المكرمة عام 2010م حيث أكد تحريم تصوير النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم، ووجوب منع ذلك، وتحريم إنتاج هذه الأفلام والمسلسلات التي تمثل أشخاص الأنبياء والصحابة وتحريم ترويجها والدعاية لها واقتنائها ومشاهدتها والإسهام فيها وعرضها في القنوات؛ لأن ذلك قد يكون مدعاة إلى انتقاصهم والحط من قدرهم وكرامتهم، وذريعة إلى السخرية منهم، والاستهزاء بهم… وتحريم تمثيل الأنبياء أفتت به هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، ومجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، وغيرها من الهيئات والمجامع الإسلامية في أقطار العالم.
وأرى استحباب تمثيلهم بأناس حقيقيين أو من خلال الرسوم المتحركة بإظهار سيرتهم العطرة؛ لكونها وسيلة معاصرة من وسائل الدعوة إلى الله بالحسنى، والوسيلة تأخذ حكم المقصد ما لم تفض إلى مفسدة، فهذه مسألة معاصرة لا نص فيها تحكمها ضوابط المصلحة والمفسدة، فإن اجتنبنا المفاسد التي ذكرها المحرمون لتمثيل الأنبياء فنستطيع عندئذ الإفتاء باستحباب تمثيلهم.
ففي تمثيلهم بالشروط التي تمنع حصول المفاسد أمر مندوب مرغوب به شرعا ومن أهم هذه الشروط:
1) إخفاء شخصية الممثل لئلا ترتبط شخصية النبي بشخص معين كإخفاء وجوههم بالنور مثلا، وأن يختار لتمثيل شخصية النبي من لم يمثل مطلقاً دوراً مخالفاً لهديهم، والأفضل أن يشترط عليه أن لا يمثل أدوارا لغير هذه الشخصيات العظيمة، أو أن لا يمثل في غير هذا الدور.
2) أن تكون القصص الممثلة ثابتة النسبة لهم دون اختلاق أو تمثيل لما لا تصح نسبته إليهم وروايته عنهم كشديد الضعف غير المجبور… إلا ما اقتضه ضرورة كإضافة ما هو متوقع من طبيعة السلوك الإنساني القويم.
3) الحرص على الوصول إلى كمال تعظيمهم في طريقة تمثيلهم وإظهار فضائلهم ببذل غاية الوسع في ذلك، وأن يكون تمثيلهم بقصد تعظيمهم، وإبراز تضحياتهم الرائعة، وجهودهم الدعوية المضنية، وأساليبهم الدعوية الرائدة، والتركيز على مبادئهم ومحور دعوتهم.
4) أن لا يترتب على تمثيلهم مفسدة ظاهرة.
فأرى أنه يستحب شرعاً تمثيل الأنبياء في الأفلام والمسلسلات الدعوية الإرشادية، ومثلهم الملائكة الكرام، وكبار الصحابة الأعلام -رضوان الله عليهم- كالخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين وأمهات المؤمنين… بالشروط السابقة كالتركيز على شخصية النبي لا شخص الممثل بإخفاء شخصية الممثل كعدم ظهور وجهه الدال على ذات النبي أو الرسول عليه الصلاة والسلام كأن يوضع نورٌ على الوجه يغطيه فلا تظهر ملامحه، كما مثل الإيرانيون شخصية النبي زكريا عليه السلام، حيث إن الوجه فيه مجامع الجمال والجلال والدلالة على الحال؛ لأن في إظهار وجه من يمثل هؤلاء مفاسد كثيرة أقلها أن هذا الممثل الذي مثل شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قد يمثل شخصية سيئة فيتداخل كمال النبي صلى الله عليه وسلم وجلاله مع نقص الشخصية الأخرى وخستها في أذهان المشاهدين، فالإنسان إن رسم صورة لعظيم من خلال هذا الفيلم أو المسلسل فلن تمحى من ذاكرته، فإن رأى هذه الصورة من خلال تمثيل الممثل الذي مثلها لأفلام أخرى تتعارض مع عصمة النبي واحترامه وإجلاله، فلا شك أن هذا التصور السلبي سيدخل إلى قلب المشاهد، وسيكون مدخلا للشيطان ومعينا له في تشويه هذا النبي، ولا أقل من ربط نبي كامل ببشر ناقص…
ولا زلت أذكر منذ نعومة أظفاري إلى اليوم كلما ذُكر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه تذكرت من مثَّل شخصيته وهو الممثل المصري عبد الله غيث، وإذا ذكر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تذكرت الممثل نور الشريف الذي مثل شخصيته، ثم بعد ذلك نرى الأفلام الخليعة والشخصيات السيئة التي مثلها نور الشريف، فتتداخل في القلب والوجدان هاتان الصورتان، وكلما طردتها من قلبي كلما رجعت حتى أصبحت مؤرقة مزعجة، وهذا يحدث مع شخصية عمر بن عبد العزيز فما بالك بشخصية نبي من الأنبياء أو واحد من كبار الصحابة كما فعلوا مع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه!!!؛ لذلك وجدنا أن كثيرا ممن مثلوا شخصية المسيح لا يمثلون شخصيات أخرى رعاية لقدسية شخصية المسيح عليه السلام أن يسيء له هذه الممثل بتمثيل دور لا يليق بالشخصية التي مثلها؛ لأنها سترتبط به، وإساءته هي إساءة لتلك الشخصية والله تعالى أعلم.
وقد فضل الله تعالى الأنبياء على سائر الخلق فقال جل من قائل (وَكُلّا فَضَّلنَا عَلَى ٱلعَٰلَمِينَ) [الأنعام: 86] فيجب توقيرهم وتعظيمهم وهذا التمثيل بهذه الهيئة يتنافى مع ذلك، وفيه إيذاء لهم ولنا وقد نهى الله عن ذلك بقوله (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنيَا وَٱلأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابا مُّهِينا وَٱلَّذِينَ يُؤذُونَ ٱلمُؤمِنِينَ وَٱلمُؤمِنَٰتِ بِغَيرِ مَا ٱكتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحتَمَلُواْ بُهتَٰنا وَإِثما مُّبِينا) [الأحزاب: 57-58]، ولا شك أن في تمثيل الأنبياء والصحابة الكبار مصالح كثيرة نؤيدها وندعمها بما لا يظهر وجوههم؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمصلحة الموهومة لا تقف أما دفع المفسدة المعلومة.
فعلى الأمة مقاطعة هذه الأفلام والمسلسلات التي تخالف ما ذكرت من الشروط إنكاراً على المنتجين والممثلين حتى يرجعوا إلى النهج الحق الذي يسير مع مصلحة الأمة حاضراً ومستقبلاً، وفي هذه المقاطعة ذب عن المرسلين وخط دفاعي مهم في الوقوف ضد المتصيدين والحاقدين ممن يدسون السم في العسل من المنتجين تطبيقا لقوله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2 ).
مصدر الفتوى
من كتاب: (فتاوى معاصرة)، مؤلف الكتاب: للدكتور أيمن عبد الحميد البدارين،
دار النشر: دار الرازي للنشر والتوزيع، مكان النشر: عمان، الأردن، رقم الطبعة:
الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1434هـ-2013م، رقم الصفحة (105-106).
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.