حكم من أفطر ظانا بقاء الليل أو مغيب الشمس خطأً
السؤال:
ما حكم من أفطر ظانا بقاء الليل أو أفطر ظانا مغيب الشمس خطأً؟
الجواب:
بداية لا بد من التنبيه على أن عوارض الأهلية ثلاثة: الإكراه والخطأ والنسيان، فما حكم من أكره أو نسي أو أخطأ فأفطر؟
أولا: الإكراه، من أكره على الفطر كأن أُدخل الطعام في فمه أو هُدِّد تهديدا ملجئاً فصومه صحيح ولا يفطر عند جماهير أهل العلم.
ثانيا: من نسي فأكل أو شرب فإنما أطعمه الله وسقاه اتفاقا في صوم الفرض كرمضان، وصومه كذلك صحيح إن أكل ناسيا عند جماهير أهل العلم في صوم النافلة، وهو الصحيح خلافا للحنفية.
ثالثا: الخطأ، وهذا الأمر يكثر وقوعه اليوم بسبب اعتماد كثير من الناس على الفضائيات في سماع الأذان، وأحيانا بسبب خطأ بعض المؤذنين الذين يؤذنون قبل الوقت في المغرب وبعده في الفجر، وأحيانا بسبب ضعف التركيز خاصة في أذان الفجر للمستيقظ من النوم، وأحيانا لعدم التمييز بين أذاني الفجر الأول والثاني… وخلاصة المسألة أن الإنسان قد يفطر خطأ لا عمدا فما حكم ذلك؟.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: اتفقت المذاهب الأربعة في المعتمد فيها أن من أكل أو شرب أو أفطر في نهار رمضان خطأ فصومه باطل وعليه القضاء.
قال ابن بطال: ” وقد روى القضاء عن ابن عباس ومعاوية، وهو قول عطاء، ومجاهد، والزهري، ومالك، والثوري، وأبى حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأبى ثور “.
الرأي الثاني: فرق بعض الفقهاء منهم ابن حبيب المالكي بين من أكل وهو يشك في الفجر وبين من أكل وهو يشك في غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك في غروب الشمس، واحتج بأن الأصل بقاء النهار، فلا يأكل حتى يوقن بالغروب، والأصل في الفجر بقاء الليل، فلا يمسك عن الأكل حتى يوقن بالنهار، وبهذا قال المخالفون لمالك في هذا الباب، وهو قول بعض الحنابلة ونسب لبعض الشافعية “قال في التلخيص: يجوز الأكل بالاجتهاد في أول اليوم، ولا يجوز في آخره إلا بيقين ولو أكل ولم يتيقن لزمه القضاء في الآخر، ولم يلزمه في الأول، وقاله بعض الشافعية”.
الرأي الثالث: ذهب نفر قليل من القدماء والمعاصرين إلى عدم فطره، ونسب ابن حجر العسقلاني في فتح الباري إلى جمع من الفقهاء عدم الإلزام بالقضاء فقال: ” وجاء ترك القضاء عن مجاهد، والحسن، وبه قال إسحاق، وأحمد في رواية، واختاره ابن خزيمة فقال: قول هشام لا بد من القضاء لم يسنده ولم يتبين عندي أن عليهم قضاء…، وقال ابن التين: لم يوجب مالك القضاء إذا كان في صوم نذر. قال ابن المنير في الحاشية في هذا الحديث أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر فإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلا حرج عليهم في ذلك”، قال ابن بطال: ” قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر”.
وفي المحلى قال ابن حزم: “من تسحر فإذا به نهار وهو يظن أنه ليل من لم ير في ذلك قضاء. فهؤلاء: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وابن مسعود، وحذيفة، وعمه خبيب، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، فهم أحد عشر من الصحابة، لا يعرف لهم مخالف من الصحابة – رضي الله عنهم -. إلا رواية ضعيفة من طريق مكحول عن أبي سعيد الخدري ولم يدركه؛ ومن طريق يحيى الجزار عن ابن مسعود ولم يدركه. ومن التابعين: محمد بن علي، وأبو مجلز، وإبراهيم، ومسلم، وأصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وجابر بن زيد. ومن الفقهاء: معمر، والأعمش. فإن ذكروا رواية سعيد بن قطن عن أبيه عن معاوية فيمن أفطر وهو يرى أنه ليل فطلعت الشمس: أن عليه القضاء، وبالرواية عن عمر بمثل ذلك”، وهو ما رجح ابن حزم الظاهري.
والذي أراه بعد تفكير دام لسنوات وتردد كثير دام طويلا خوفا من مخالفة المذاهب الأربعة مذاهب أهل السنة والجماعة والتي يندر جدا خروج الحق عن آرائهم، وهم الأئمة المرضيون المهديون… أرى: أن المخطئ لا يفطر ولا يكون صومه باطلا، بل صومه صحيح ولا قضاء عليه بشرط أن لا يكون مقصرا.
ودليل ذلك:
أولا: ما روي في مصنف عبد الرزاق أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: (قال: أفطر الناس في زمان عمر قال: فرأيت عِساسا أخرجت من بيت حفصة – العِساس: جمع عُسٍّ، وهو القدح والإِناء الضخم -، فشربوا في رمضان، ثم طلعت الشمس من سحاب فكأن ذلك شق على الناس، وقالوا: نقضي هذا اليوم؟ فقال عمر: «ولم؟ فو الله ما تجنفنا لإثم»).
وفي روايات أخرى في مصنف عبد الرزاق أن عمر رضي الله عنه أمر بالقضاء منها عن عبد الرزاق عن بن جريج قال حدثني زيد بن أسلم عن أبيه قال: (أفطر الناس في شهر رمضان في يوم مغيم ثم نظر ناظر فإذا الشمس فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد اجتهدنا نقضي يوما)، وفي رواية (يا هؤلاء من كان أفطر فإن قضاء يوم يسير ومن لم يكن أفطر فليتم صيامه) فيظهر أن أمر عمر بالقضاء كان من باب الاحتياط؛ بدليل أنه اعتبر قضاء اليوم أمر يسير فربطه باليسر لا بالخطأ، بمعنى أن الأمر لو عسر عليهم لما أمرهم بالصوم، وهي إشارة على عدم التعارض بين الروايتين عن عمر رضي الله عنه.
ثانيا: القياس على الناسي والمكره، فكلاهما من عوارض الأهلية وخاصة النسيان، فما الفرق بين من أكل ناسيا أو أكل مخطئاً، فالقاعدة العامة أن الناسي لو ترك واجبا فلا يأثم لكن نفي الإثم لا يستلزم نفي القضاء بل يجب عليه القضاء، لكن الشرع الحكيم استثنى الناسي من لزوم القضاء بقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «إذا نسي فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»، ولا فرق بين من أكل خطأ أو نسيانا فكلاهما أطعمه الله وسقاه، فنقيس المخطئ على الناسي هنا فقط.
وهذا القياس تنبه له بعض التابعين، فقد نسب العيني في عمدة القاري إلى ” مجاهد وعطاء وعروة بن الزبير أنهم قالوا: لا قضاء عليه وجعلوه بمنزلة من أكل ناسيا “.
وقال ابن القيم : القياس يقتضي سقوط القضاء لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم ولو أكل ناسيا لصومه لم يجب عليه قضاؤه والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد جوازه وأخطأ في فعله وقد استويا في أكثر الأحكام وفي رفع الآثام فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع”.
ولا دلالة للحديث الذي يستدل به المخالفون والذي رواه البخاري في صحيحه في باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: «أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس» قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: «لا بد من قضاء» وقال معمر: سمعت هشاما لا أدري أقضوا أم لا)، فقد قال عنها ابن حجر في فتح الباري أنها ” مسألة خلافية واختلف قول عمر فيها” ورد على جزم الراوي بلزوم القضاء بأن ” جزمه بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر “. وقد حمل بعض الفقهاء رواية البخاري هذه على أخرى له وهي رواية ” الأكثرين (بد من قضاء؟) قال بعضهم: هو استفهام إنكار محذوف الأداة، والمعنى: لا بد من قضاء؟!” أي يسأل مستنكرا هل يلزم القضاء؟ الجواب: لا يلزم.
مصدر الفتوى من كتاب:
دار النشر: دار الرازي للنشر والتوزيع، مكان النشر: عمان، الأردن، رقم الطبعة:
الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1434هـ-2013م، رقم الصفحة (45-50).
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.