حكم إثبات دخول أو خروج شهر رمضان بالحسابات الفلكية

السؤال:
ما حكم إثبات دخول أو خروج شهر رمضان بالحسابات الفلكية؟
الجواب:
ذهب فريق من العلماء إلى الاعتماد على الحسابات الفلكية مطلقا، وذهب جمهور العلماء إلى عدم اعتبارها مطلقا معتمدين على الرؤية فقط، والأصوب التفصيل في هذه المسألة الخطيرة التي تُحدث في كل عام بلبلة في العالم الإسلامي، فالحسابات الفلكية معتبرة شرعا ويعمل بها ويعتمد عليها لكن في النفي دون الإثبات، بمعنى أن لا نعتمد على الحسابات الفلكية في إثبات ودخول أو خروج شهر رمضان لعموم الأمة بناء على الحسابات الفلكية، لكننا نعتمد عليها في جانب النفي بمعنى أنه لو ثبت بالحسابات الفلكية القطعية أن هلال رمضان يستحيل أن يتولد أو يرى في وقت معين وادعى شخص أو أكثر أنهم رأوا الهلال في هذا الوقت الذي يستحيل فيه تولده أو رؤيته من الناحية العلمية؛ فإننا نحكم بخطأ الشهود الذين ادعوا الرؤية أو كذبهم، ولا تقبل شهادتهم في هذا المقام لمخالفتها الواقع المقطوع به علميا؛ إذ كيف رأوا هلالا لم يتولد بعد فتستحيل رؤيته!؟
وهذا الاتجاه الثالث هو المعتمد عند متأخري الشافعية، وحكاه ابن سريج قولا للشافعي، وسبقهم إليه من السلف مـطـرف بن عـبد الله الشخير الحرشي العامري أبو عبد الله البصري المتوفي سنة 95 للهجرة، والإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف قاضي دينور المتوفي سنة 276هـ.
فقد نقل القليوبي عن العلامة العبادي قوله: ” إنه إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤيته لم يقبل قول العدل لرؤيته، وترد شهادتهم بها انتهى “، وعلق القليوبي مباشرة مؤيدا لهذا القول: ” وهو ظاهر جلي ولا يجوز الصوم حينئذ ومخالفة ذلك معاندة ومكابرة “. وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة: ” ووقع تردد لهؤلاء – الأذرعي والسبكي والإسنوي – وغيرهم فيما لو دل الحساب على كذب الشاهد بالرؤية، والذي يتجه منه: أن الحساب إن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا، وهذا أولى من إطلاق السبكي إلغاء الشهادة إذا دل الحساب القطعي على استحالة الرؤية وإطلاق غيره قبولها “.
أما عدم اعتمادنا عليه في جانب الإثبات، أي إثباتنا لدخوله بها فلكي نجمع بين الأدلة الداعية إلى اعتماد الرؤية، فعندها نكون قد جمعنا بين طريقتين في إثبات دخول رمضان: الحسابات الفلكية والرؤية، والجمع أولى من الترجيح، وإعمال جميع الأدلة من الرؤية والحساب أولى من إهمال بعضها
الأدلة على اعتبار الحسابات الفلكية كثيرة منها:
الدليل الأول: اعتبار القرآن الكريم للحساب المتعلق بمنازل القمر، فقد حثنا القرآن الكريم في آيات كثيرة على حساب من ذلك قوله تعالى ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5] قال القرطبي: “أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها”.
وقوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5] وقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الإسراء: 12].
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين، وحدثنيه محمد بن حاتم حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد ولم يذكر للشهر الثاني ثلاثين).
وجه الدلالة من الحديث أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام علل ترتيب عدم اعتمادنا على الحسابات الفلكية بكوننا أمة أميَّة، والترتب يدل على العلية بمسلك الإيماء كما هو مقرر معروف في أصول الفقه في مسالك العلة، فدل على أن علة عدم اعتمادنا على الحسابات الفلكية كوننا أمة أمية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا انتفت العلة انتفى المعلول، أي إذا لم نعد أمة أمية وأصبحنا أمة متعلمة نحسب حسابات دقيقة كما هو حال أمتنا في هذه الأيام مع تطور العلم الحديث واختراع الآلات الدقيقة المتطورة وخاصة الكمبيوتر وتطور علم الفلك والفضاء… فعندها لا بد أن نعتمد على الحسابات الفلكية.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقْدُرُوا له)، أي احسبوا له من التقدير أي الحساب، قال الدينوري: “أي فقدِّرُوا له المسيرَ والمنازلَ”
الدليل الرابع: الوسيلة الأقوى مقدمة على الأضعف شرعا، فرؤية الهلال وسيلة ظنية والحسابات الفلكية وسيلة قطعية، ومن القواعد المجمع عليها في ديننا أن الأقوى مقدم على الأضعف، ويشهد لذلك آلاف الفروع الفقهية.
فالشهر القمر يدخل بتولد الهلال، وهي مسألة علمية لا شرعية، ومعنى التولد هو بدئ عكس ضوء القمر لنور الشمس على الأرض، وهذا التولد يحتاج التحقق منه إلى دليل فدلنا نبينا عليه الصلاة والسلام إلى أقوى وسيلة في عصره وهي الرؤية لعدم توفر وسائل أقوى كالحسابات لافلكية في عصره عليه الصلاة والسلام فقال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)، ونحن متعبدون بالمقاصد لا بالوسائل، فإهلال القمر مقصد، ورؤيته وسيلة، ولم تكن ثمة وسيلة أخرى لمعرفة التولد بدقة غير الرؤية البصرية في زمنه r؛ لأن الفلك لم يكن في ومنه r علما مستقرا وإنما مبناه على التنجيم والتخمين، كمان كانت العرب أمة أمية لا تعتمد على هذه العلوم فخاطبهم بما يعرفون رفعا للحرج عنهم،
وبقي علم الفلك ضعيفا حتى قرون متأخرة لذلك لم بعتمد عليه الفقهاء، ويظهر ضعفه فيما قاله ابن دقيق العيد الذي توفي عام 702هـ أي بعدر سبة قرون من وفاة النبي r تقريبا: “الذي أقول إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين” وحصول خطأ يوم ويومين دليل قاطع على تردي هذا العلم في تلك الأعصار المتأخرة فما بالك في زمنه r، أما اليوم فلا خطأ معتبر في الحساب الفلكي.
فبتطور علم الفلك تطوراً هائلاً نكون أمام وسيلة أقوى من الرؤية البصرية وهي الحسابات الفلكية القطعية، بخلاف الرؤية البصرية الظنية المعرضة للخطأ بحسب قوة نظر الرائي وعوامل جوية أخرى، فعلينا الاعتماد اليوم على الوسيلة الأقوى وهي الحسابات الفلكية، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإذا تطورت الوسائل التي تحقق المقاصد وجب الاعتماد عليها والرجوع إليها.
الدليل الخامس: أجمع العلماء على رد شهادة الشاهد إن خالف المقطوع به، فمن شهد أنه رأى الشمس في منتصف الليل، أو أن فلانا الطفل هو ووالد من يكبره سنا بعقود ترد شهادته إجماعا، ومن ادعى أنه رأى هلال رمضان الذي لم يولد بعد ولا زال خلف الأرض لم يتلق نور الشمس بعد ليعكسه على الأرض فكيف يمكن أن تقبل شهادته التي نقطع بخطئها!، فوجب الاعتماد على الحساب الفلكي كمعيار قطعي في قبول الشهادة، فلا نقبل شهادة من ادعى رؤية هلال لم يوجد بعد، أما لو حكم العلم القطعي بإمكان رؤية الهلال فعندها نعتكد على الرؤية، فأصبح الحساب الفلكي القطعي حامكما على الرؤية قائدا لها، وهي تابعة له.
قال الإمام التقي السبكي: “إن دل الحساب على عدم إمكان رؤيته -ويدرك ذلك بمقدمات قطعية ويكون في غاية القرب من الشمس- ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حسا لأنه يستحيل فلو أخبرنا به مخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط فالذي يتجه قبول هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان والظن لا يعارض القطع فضلا عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان استحال القبول شرعا لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتي بالمستحيلات”.
وإني لأعجب كيف يرفض كثير من أهل العلم العمل بالحساب الفلكي وهم يعتمدون كل يوم عليها في صلواتهم الخمس، فلم يعد أحد اليوم بعتمد على الرؤية البصرية في حساب أوقات الصلوات وإنما يكتفون بما قرره الحساب الفلكي في دخول وخروج أوقاتها، والصوم أخ الصلاة، فلنعامل هذه كتلك، والله تعالى أعلم.
(فتاوى معاصرة)، للدكتور أيمن عبد الحميد البدارين، دار الرازي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 1434هـ-2013م، رقم الصفحة (41-43).
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.